مقدمات البحث التاريخي
أولاً – المعارف و العلوم المساعدة :
يذهب البعض في سردهم للمعارف و العلوم المساعدة إلى إيراد قائمة تكاد تشمل كل المعارف و العلوم المعروفة بدءاً بمعرفة الخطوط و أسلوب و صيغ المراسلات الرسمية , و انتهاء بالرسم و الموسيقى و الشعر .
و مع أن الباحث يكون في وضع أفضل كلما اتسعت معارفه و مهاراته , و سيكون رائعاً دون شك يلم بكافة العلوم المعروفه في عالم اليوم .
إلا أن توقع ذلك من باحث واحد ضرباً من المبالغة التي تتجاوز قدرة الإنسان الفرد . فمن ذا الذي يستطيع أن يلم اليوم , بعد هذا التفجير المعرفي الذي يشهده عصرنا ..
فكل العلوم و الفنون و المعارف مفيدة للباحث دون شك , و حتى علوم الفيزياء و الكيمياء و الطب , يمكن في أبحاث معينة , أن تفيد معرفتها الباحث فائدة كبيرة , إلا أن التمكن منها جميعاً , أو مجرد الإلمام بها كافياً هو أمر يتجاوز القدرة البشرية للباحث الفرد ..
و ما دامت الأبحاث تختلف عن بعضها في طبيعة الموضوع الذي تعالجه و في الإطار الزماني و المكاني للموضوع , فإن المعارف و العلوم التي يحتاجها الباحث تختلف من بحث إلى آخر . هذه مسألة . أما المسألة الثانية فهي أن هناك علوماً و معارف تعتبر لصيقة بالتاريخ أكثر من غيرها . و هذه يحتاجها كل باحث في التاريخ مهما اختلفت طبيعة و مكان و زمان موضوع البحث الذي يشتغل به .
و من هذه المعارف و العلوم , على سبيل المثال , الجغرافيا و الإقتصاد و الإجتماع و الآثار و السياسة و اللغات ..
أما المسألة الثالثة فهي أننا لا ننتظر من الباحث في مجال التاريخ أن يتعمق حتى في العلوم و المعارف الوثيقة الصلة بعلم التاريخ تعمقاً يصل في مستواه إلى مستوى المتخصصين فيها فهذا مطلب عسير و صعب التحقيق .
و لذا فإنه لا ينتظر من الباحث أكثر من الإلمام بها إلماماً كافياً , أي بالقدر الذي يمكنه من الإستفادة منها و الإستعانة بها في إنجاز بحثه . و يتناسب مقدار التعمق المطلوب في كل علم تناسباً طردياً مع طبيعة البحث ..
و الآن سوف نذكر بعض العلوم و المعارف المساعدة دون أن يعني ذكرها إستبعاد العلوم الاخرى لانه لكل بحث علومه و معارفه التي تناسب طبيعة البحث و الموضوع و في إطاره الزمني و المكاني في :
1= التوقيت ( الكرونولوجيا ) :
أي معرفة الزمن . فمن المهم هنا أن تتوفر للباحث معرفة بالنظم المختلفة لقياس الزمن . فهناك نظم كثيرة يطلق على الواحد منها " تقويم " . و لكل تقويم نقطة بداية , هي عبارة عن حدث كبير , أصطلح على إعتباره نقطة يبدأ عندها ذلك التقويم . فاليونانيون بدأو تقويمهم بحدث هام بالنسبة لهم , و هو بدء الألعاب الأولمبية , و بذلك تقابل السنة الأولى في تقويمهم عام 776م ق.م في التقويم الميلادي . و التقويم الميلادي يبدأ من ميلاد المسيح . و التقويم الهجري يبدأ اعتباراً من عام هجرة الرسول صلى الله عليه و سلم من مكة للمدينة , و يقابل عام 622في التقويم الميلادي .. و هكذا .
و لا شك ان الباحث العربي , عندما يصادف حدثاص معيناص , سُجل تاريخ وقوعه بالتاريخ الهجري , سيحتاج لكي يجعل زمن الوقوع مفهوماً للقارئ الأجنبي , سيحتاج إلى أن يدون أمام التاريخ الهجري التاريخ الميلادي .
كما أن الباحث القديم سيحتاج إلى أن يعمل الشيء ذاته إذا صادفه حدث سجل تاريخ وقوعه وفقاً للتقويم اليوناني أو الروماني أو البابلي أو المصري أو السرياني ... إلخ .
و قد وضعت في العصر الحديث جداول يستطيع الباحث استخدامها لضبط زمن وقوع أي حدث وفقاً لمختلف التقويمات .
و هناك طريقة حسابية يمكن الإستعانة بها لتحديد السنة الميلادية المقابلة للسنة الهجرية , بصورة دقيقة إلى حد كبير , لا يتجاوز الخطأ فيها , إذا حدث , أكثر من بضعة أشهر , و ذلك على النحو التالي :
السنة الهجرية – ( السنة الهجرية × 3\ 100 ) + 622 = السنة الميلادية ..
و الرقم 622 هو العام الميلادي المقابل للعام الهجري الأول , أي هو العام الذي هاجر فيه الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة ..
2= قراءة الخطوط ( الباليوجرافيا ) :
تتطور أنواع و أشكال الخطوط و تتغير عبر العصور , مما يجعلها تصلح دليلاً يقود إلى تحديد الزمان و المكان اللذين كتب فيهما الأصل التاريخي . و لهذا فإن معرفة الباحث لخصائص الخطوط في كل عصر تمكنه – إلى جانب وسائل أخرى كما سنرى – من التأكد مما إذا كان الأصل التاريخي صحياً أو مزوراً .
و من أنواع الخطوط , الخط المسند في اليمن القديم , و الخط الهيروغليفي في مصر القديمة , و الخط المسماري في العراق القديم , و الخط العربي في البلاد العربية عموماً , و في بعض البلدان الإسلامية , غير العربية و لكل نوع من هذه الانواع أشكال مختلفة , فالخط العربي مثلاً كتب بأشكال عديدة منها الكوفي و النسخي و الرقعي و الديواني و الثلثي و الفارسي . و في العهد العثماني ساد الخط الديواني و خط القيرمة في إدارات الدولة .
و في اوروبا تنوعت الخطوط أيضاً و تغيرت عبر العصور , فنحن إذا ما تصفحنا كتاباً طبع في أواخر القرن الثامن عشر . مثلاً سنجد أنه قد كتب بخط تصعب علينا قرائته , مالم نتدرب عليه . بل إن عدد حروف الكلمات نفسها قد طرأ عليه بدوره بعض التغيير , فحذفت بعض الحروف و اختصرت الكلمات .
2= قراءة الخطوط ( الباليوجرافيا ) :
2= قراءة الخطوط ( الباليوجرافيا ) :
تتطور أنواع و أشكال الخطوط و تتغير عبر العصور , مما يجعلها تصلح دليلاً يقود إلى تحديد الزمان و المكان اللذين كتب فيهما الأصل التاريخي . و لهذا فإن معرفة الباحث لخصائص الخطوط في كل عصر تمكنه – إلى جانب وسائل أخرى كما سنرى – من التأكد مما إذا كان الأصل التاريخي صحياً أو مزوراً .
و من أنواع الخطوط , الخط المسند في اليمن القديم , و الخط الهيروغليفي في مصر القديمة , و الخط المسماري في العراق القديم , و الخط العربي في البلاد العربية عموماً , و في بعض البلدان الإسلامية , غير العربية و لكل نوع من هذه الانواع أشكال مختلفة , فالخط العربي مثلاً كتب بأشكال عديدة منها الكوفي و النسخي و الرقعي و الديواني و الثلثي و الفارسي . و في العهد العثماني ساد الخط الديواني و خط القيرمة في إدارات الدولة .
و في اوروبا تنوعت الخطوط أيضاً و تغيرت عبر العصور , فنحن إذا ما تصفحنا كتاباً طبع في أواخر القرن الثامن عشر . مثلاً سنجد أنه قد كتب بخط تصعب علينا قرائته , مالم نتدرب عليه . بل إن عدد حروف الكلمات نفسها قد طرأ عليه بدوره بعض التغيير , فحذفت بعض الحروف و اختصرت الكلمات .
3 = الأختام و العملات و الشُّعُر :
و أما العملات ( النميات ) فإن اهمية معرفتها تكمن في ما تقدمه للباحث من معلومات قيمة . فسواء كانت العملة معدنية أو ورقية , فإنها تحمل صوراً للآلهة أو الملوك أو الأمراء , و أسماء و ذكرى حوادث , إضافة إلى سنة سكها . فتمكن الباحث بذلك من تحديد أزمنة العهود السياسية و حياة الملوك و الحكام , و تدله على تاريخ الأساطير و الأديان و مستوى الفنون و الصناعة و الحياة السياسية و الإقتصادية و مدى النشاط التجاري ... إلخ .
و أما العملات ( النميات ) فإن اهمية معرفتها تكمن في ما تقدمه للباحث من معلومات قيمة . فسواء كانت العملة معدنية أو ورقية , فإنها تحمل صوراً للآلهة أو الملوك أو الأمراء , و أسماء و ذكرى حوادث , إضافة إلى سنة سكها . فتمكن الباحث بذلك من تحديد أزمنة العهود السياسية و حياة الملوك و الحكام , و تدله على تاريخ الأساطير و الأديان و مستوى الفنون و الصناعة و الحياة السياسية و الإقتصادية و مدى النشاط التجاري ... إلخ .
و أما الشُّعُر ( الرنوك ) فهي العلامات المميزة , التي تدل على شعب أو دولة أو أسرة أو جماعة أو مدينة أو شخص . و يكون الواحد منها بمثابة شعار يوضع على الأعلام و غيرها . و من أمثلة هذه الشُّعُر , النسر الجمهوري لدينا . و قد استخدمت شُّعُر مختلفه عبر التاريخ . و من خلال الشُّعُر يستطيع الباحث أن يثبت صحة إنتساب ما يقع تحت يديه من الوثائق و الأسلحة و الدروع ... إلخ .
و تتوارث الأسر و الأشخاص و الدول شُّعُرها المميزة . و قد أصبحت في عصرنا تستخدم حتى من قبل المصانع و الشركات التجارية , تحت اسم العلامة المميزة ( الماركة ) ..
4 = علم الوثائق ( الدبلومات ) :
هو العلم الذي يهتم بإثبات صحة الوثيقه . فيميز بين الوثائق الصحيحة و الوثائق الزائفة . و يعتبر من العلوم المساعدة الأساسية في دراسة التاريخ .
و يمارسه عادة محققون متخصصون , يقومون بنقد الوثائق . و لابد للمحقق حتى يستطيع أن ينجز عمله و يقدم النص الصحيح للمؤرخ , لابد له أن يكون على دراية تامة بإسلوب الكتابة و بالمصطلحات المستخدمة , و الرموز ( الشفرة ) التي تدون بها الموضوعات ذات الطبيعة السرية . كما لابد أن يكون قادراً على تمييز أنواع الحبر المستعمل في الكتابة , و كذا الأقلام و الورق . فجميعها تختلف في انواعها و موادها , من عصر إلى عصر و من بلد إلى بلد .
و قد ساهم التقدم العلمي في مد المحققين بأدوات تمكنهم من التعرف الدقيق على نوع الحبر و القلم و الورق و الخط , و طريقة الكاتب الخاصة في كتابة الحروف .
و من هذه الأدوات العدسات المكبرة و المحاليل الكيميائية و الأشعة البنفسجية . فبواسطتها يمكن معرفة تركيب الورق و عمره , و نوع الحبر و مواده و ألوانه , وضغط القلم و ميل الكتابة .. إلخ .
و هي امور لا غنى عنها للتثبت من صحة انتساب الوثيقة إلى الزمان و المكان المنسوبة إليهما و للتأكد من شخصية مؤلفها ..
و من المهم هنا أن نعرف بأن الوثائق , بالمعنى العام , تشمل كل أصل يتضمن معلومات تاريخية , سواء كان هذا الأصل مكتوباً على ورق أو منقوشاً على حجر أو أثراً ماثلاً على شكل بناء او طريق أو عملة أو آنية ... إلخ .
أما بالمعنى الخاص و الدقيق فعندما نتحدث عن إثبات صحة الوثائق و نقدها و تحقيقها , فهو الكتابات الرسمية كالمعاهدات و المراسلات السياسية و الأوامر و السجلات الإدارية و الإتفاقيات و كذا الكتابات التي تسجل أحوال الإقتصاد و النظم و العادات ... إلخ .
5 = علوم اللغة :
يمكن أن ننظر إلى اللغة كعلم مساعد للتاريخ من ثلاث زوايا مختلفة كل منها أصبحت ميداناً معرفياً قائماً بذاته :
- إمتلاك اللغة كأداة لقراءة النصوص و استخدام المصادر :
قبل ان يقدم الباحث في غمار البحث يجب ان يتأكد من انه يمتلك الأداة اللغوية التي تمكنه من قراءة و فهم المصادر . فإذا كان موضوع بحثه من التاريخ اليمني القديم فلابد له أن يكون قادراً على قراءة النصوص اليمنية القديمة باللغة اليمنية القديمة ملاشرة لا عن ترجمات بالعربية أو بلغة أخرى و إلى جانب ذلك لابد له من إمتلاك لغة أو اكثر من اللغات الحديثة و خاصة الإنجليزية و الألمانية و الفرنسية و الروسية و ذلك ليتمكن من الإطلاع على ما كتب بهذه اللغات حول التاريخ اليمني القديم عموماً . و حول موضوع بحثه بشكل خاص ..
و لا يمكن تحديد نوع اللغة أو اللغات التي يجب أن يتمكن الباحث منها تحديداً جامداً فلأمر يتوقف على نوع الموضوع الذي يشتغل عليه . فاللغة اليونانية القديمة ضرورية لمن يريد أن يبحث في تاريخ اليونان و اللغتان اللاتينية و الفرنسية ضروريتان لمن يريد أن يبحث في تاريخ أوروبا الوسطى , و اللغتان العربية و العثمانية ضروريتان لمن يريد ان يبحث في تاريخ العرب الحديث و المعاصر , حتى إنهيار الإمبراطورية العثثمانية .... و هكذا .
- علم اللغة ( الألسن ) :
و موضوعه اللغة من حيث أداة تعبير و وسيلة اتصال و تفاهم بين البشر . فيهتم بدراسة أشكالها و تطوراتها و علاقاتها , و هو بهذا يمد الباحث بمعين لا ينضب من الدلالات التاريخية , التي تشير إلى التطور الحضاري للأمم و تفصح عن إنتماء الشعوب و أصولها و تفاعلها و تأثيرها المتبادل . كما توضح تطور الفكر و انتقال المفردات و المفاهيم , بما يحمله هذا الإنتقال من دلائل على التأثر الحضاري لشعب ما على غيره من الشعوب , و مدى هذا التأثير ..
فقد توصل علماء اللغات , مثلاً , من خلال دراستهم للغات القديمة في المنطقة العربية , إلى إثبات أن هناك أوجه تشابه بين اللغات البابلية و الآشورية و الكنعانية و الآرامية و العبرية و لغة عرب شمال الجزيرة العربية و لغة عرب الجنوب ( اليمنيين ) و النبطية و الحبشية .
و استنتجوا بعد دراسة أوجه التشابه في جذور الأفعال و تصريفاتها و أصول المفردات و المصطلحات الدالة على المؤسسات الإجتماعية و العقائد الدينية , أن هذه اللغات جميعها تنتمي إلى أصل واحد , فأطلقوا عليه أسم ( اللغات السامية ) , و ان الأقوام التي تحدثت بها تنتمي إلى جنس واحد , أطلقوا عليه أسم ( الجنس السامي ) ..
- فقه اللغة ( الفيلوجيا ) :
و هو علم يهتم باللغة ككائن حي متطور , فيدرس مفرداتها و اشتقاقاتها و صرفها و نحوها , و تطور كل ذلك عبر الزمان . و يعتبر فقه اللغة هاماً بالنسبة للباحث من زاوية فهمه للنصوص التاريخية فهماً صحيحاً .
فالمفردات تتغير و تتغير معانيها عبر العصور . فإذا لم يكن الباحث على دراية بهذه المسألة .
فسيندفع إلى تفسير للنصوص قد لا يكون دقيقاً و يتوصل إلى نتائج غير صحيحة لإستنادها إلى أساس غير صحيح . فالكلمة الواحدة قد تعطي دلالات و معاني عديدة , بحسب مكانها في سياق النص . و هذا أمر سهل يمكن إدراكه . فالباحث يستطيع من خلال قراءته للنص أن يفهم المعنى المقصود للكلمة , من بين معانيها المختلفة . فكلمة ( حد ) تحمل معنى , إذا ما وردت في سياق يدور حول السيوف و أنواعها مثلاً , مختلفاً عن المعنى الذي تحمله إذا ما وردت في سياق يدور حول البلدان و علاقاتها . و لكن الأمر صعب , الذي يتطلب معرفة خاصة , هو أن أصل الكلمة و منشأها يختلف في الغالب عن المعاني التي حملتها نفس الكلمة في الأزمان المختلفة فكلمة ( حَضَرَ ) و هي عكس ( غاب ) , أصبحت لها اشتقاقات و معاني لهذه الإشتقاقات يبدو كما لو أنه لم يعد له علاقة بالمعنى الأصلي و من هذه المعاني مثلاً ( الحضارة ) . و تقابلها باللغات الأوروبية كلمة Kultur , و أصلها الزراعة و لكنها أصبحت اليوم تعني من ضمن ما تعنيه الثقافة و الحضارة .
فالإلمام بفقه اللغة إذن يساعد الباحث مساعدة كبيرة على فهم النصوص فهماً دقيقاً و يسهل له الوصول إلى استنتاجات سليمة ..
6 - علم الجغرافيا :
إذا كانت الأرض هي مسرح الوقائع التاريخية فإن معرفة سطحها سيمكن الباحث من فهم التاريخ. و من هنا يعتبر علم الجغرافيا و هو العلم الذي يدرس السطح من أهم العلوم المساعدة للمشتغلين في مجال التاريخ .
فالنشاط البشري مرتبط أشد الإرتباط بما على سطح الأرض من تضاريس و مياه و مناخ و ثروات .
و يبلغ تأثير جغرافية الأرض في تحديد نشاط الإنسان و شكله و لونه و مزاجه و طباعه و اهتمامه و أساطيره و عقائدة ... إلخ , حداً يجعل كثيراً من علماء الإجتماع و الإقتصاد و بعض فلاسفة التاريخ يذهبون إلى أن الإنسان و حضارته و نشاطه الإقتصادي و بناه الاجتماعية , إنما هي نتاج للبيئة الجغرافيه .
و من المؤكد أن لهذا الرأي بعض الوجاهة , إذ لا يمكن أن يكتمل فهمنا لحضارة من الحضارات , سواء في نشوئها أو ازدهارها أو انهيارها , إلا بمعرفتنا للإطار الجغرافي الذي نشات فيه .
كما أننا لا نستطيع مثلاً أن نفهم استقرار الشعوب أو تنقلها , بداوتها أو تحضرها , مالم نعرف جغرافية الأرض و مناخها , من سهول و وديان و جبال و أنهار و غابات و رمال و بحار و حرارة و رطوبة و أمطار .. إلخ .
بل إننا لا نستطيع أن نكون صورة دقيقة عن المعارك العسكرية و نفهمها فهماً صحيحاً ما لم نتعرف على تضاريس و مناخ الأرض الذي دارت عليها .
كما أن تفسيرنا للمكانة التي احتلتها بلد من البلدان , كاليمن , عبر التاريخ في حركة التجارة العالمية , لن يكون تفسيراً موفقاً ما لم نضع في اعتبارنا موقعها الجغرافي المتميز , الذي مكنها من ان تلعب دوراً نشطاً كوسيط تجاري عالمي ..
7 – علم الإقتصاد :
يتناول علم الإقتصاد نشاط الإنسان الهادف إلى تأمين المعاش , من زراعة و تجارة و حرف . و لما كان الإنسان , منذ وجوده على هذه الأرض , يمارس نشاطه الإقتصادي , بصوره المختلفه , متعاملاً مع الطبيعة و مع أخيه الإنسان . فإن تحقيق أهداف نشاطه قد تطلب منه أن يبتدع النظم و القوانين , و أن يدخل في صراع متواصل من أجل البقاء , فيبني الدول و يخوض الحروب و يغزو و يُغزى, و يوسع رقعة المكان الذي يمتلكه , أو يتخلى عن اجزاء منه أمام عدو قوي , فإن الألمام بهذا النشاط , و ما يترتب عليه , مسألة هامة للغاية , بالنسبة للباحث , لا يمكنه الإستغناء عنها , فبدونها لن يستطيع أن يكتب التاريخ أو يعالج موضوعاً من موضوعاته . إذ كيف يمكن للباحث أن يفهم مستوى الحياة , و الرخاء و الفقر , الذي عاشه شعب من الشعوب , إذا لم يقف على نوع و حجم الثروات الطبيعية التي يملكها ذلك الشعب , و نوع الزراعة و الصناعة و النشاط التجاري . و كيف يمكنه – أي الباحث – أن يفهم الحياة الداخلية للمجتمع و علاقات الأفراد و الفئات و الطبقات , بعضها بالبعض الآخر , إذا لم يلم بالنشاط الإقتصادي القائم حينذاك , و توزيع الثروة في المجتمع , لما لهذا كله من تأثير على العلاقات الداخليه بين الناس , من سلام أو تناحر , من عدل و إستغلال و لما يعكسه هذا من علاقات بين الحاكم و المحكوم . و كيف يمكن أن يفهم الباحث مستوى العمران , و نهوض الحضارة و تدهورها و علاقات الدول و حروبها , إذا لم يفهم الإقتصاد و تأثيره ..
8 – علم الإجتماع :
و ما يقال عن الإقتصاد يقال عن الإجتماع , ليس فقط لتداخل مجالي العلمين , بل أيضاً لأن التاريخ ليس شيئاً إذا لم يكن تاريخاً للمجتمع البشري , بعلاقاته و مؤسساته المختلفة .
فالأسرة و العشيرة و القبيلة و الفئة و الطبقة و الدولة , بمؤسساتها المختلفة , و ما ينجم عن هذه الكيانات الإجتماعية من علاقات و سياسات و إبداعات , على مستوى الفكر و العمل , إن هي إلا تعبيرات من تعبيرات الإجتماع البشري , و دراسة الإجتماع البشري تدخل في إطار علم الإجتماع , و هي في نفس الوقت من أهم الأسس التي يرتكز عليها علم التاريخ . فهل يمكن بعد هذا ان نتصور بحثاص في التاريخ بعيداً عن ميدان علم الإجتماع . إن هذه العلاقة الوثيقة بين التاريخ و بين الغجتماع تجعل الباحث عاجزاً عن المضي في عمله البحثي دون أن يكون قد تزود بقدر كاف من المعرفة المستمدة من مجال علم الإجتماع ..
9- علم السياسة :
علم السياسة ميدانه الدولة بمؤسساتها و نظمها و علاقتها بمواطنيها و بالدول الأخرى . و هو بهذا يمثل واحداً من أهم الميادين التي يصب علم التاريخ جهده لدراستها . بل لقد ظل التاريخ لوقت طويل يركز جل همه على الجوانب السياسية , حتى اخذ شكل تاريخ سياسي , و لم يعط اهتماماً كافياص للجوانب الأخرى من حياة الغنسان ( كالإقتصاد و الإجتماع و الفنون .. إلخ ) إلا منذ وقت قريب . أي في العصر الحديث , عندما أدرك المؤرخ أن كتابة تاريخ سليم للحياة البشرية ذات عناصر متعددة و متداخلة , و لا يمكن فهمها إلا إذا التفت المؤرخ إلى مجمل العناصر المكونة لها . و رغم إدراك المؤرخين لهذه الحقيقة و اهتمامهم بمختلف جوانب الحياة الإنسانية , إلا أننا لازلنا نلحظ اهتماماً أكبر لدى كثير منهم بالحياة السياسية , و هذا في حد ذاته يدل على مدى أهمية إلمام الباحث بعلم السياسة , باعتباره من اهم العلوم المساعدة له في عمله ..
10- علم الآثار :
الآثار هي مادة التاريخ . و بدونها لا يوجد تاريخ . فنحن ندرس الحدث التاريخي من خلال الآثار التي خلفها . و أي حدث تاريخي لم يخلق آثاراً , يعتبر بالنسبة للباحث حدث لم يقع , إذ لا يمكنه التعامل معه .
و الآثار بمعناها العام , هي كل ما خلفه الحدث من مباني و نقوش و أواني و حلي و ملابس و مدن و طرق و تحف و رسوم و كتابات على الورق .. إلخ .
أم المعنى الضيق للآثار فهو تلك المخلفات المتمثلة بخرائب المدن و القصور و القلاع و المعابد و الأسلحة و أدوات الطعام و الفلاحة , و غيرها من الشواهد التي حفظها الزمن مطمورة تحت التراب او شامخة فوق سطح الأرض , دالة على أمم و شعوب و حضارات اندثرت , و لم يبق للباحث من وسيلة لإعادة اكتشافها و التعرف على تاريخها إلا من خلال آثارها الباقية تلك , و سواء أخذنا الآثار بمعناها العام الواسع او بمعناها الخاص الضيق فغنها تهتبر مادة المؤرخ و أداته , التي يستطيع بواسطتها أن يكتب التاريخ و أن يعيد اكتشافه و يصحح صورته , على ضوء ما يكشفه من آثار .
و بدون هذه المادة سيبقى الباحث عاجزاً عن ارتياد مجاهل التاريخ و دراسته دراسة علمية . و من هنا يعتبر علم الآثار شديد الصلة بعمل المؤرخ و مجاله , كعلم مساعد لا غنى له عنه ..
11 – علوم مساعدة أخرى :
من الصعب علينا حصر كل ما يمكن أن نعتبرها علوماً مساعدة للمؤرخ و كل علم يمكن ان يكون علماً مساعداً للباحث إذا كانت له صلة بموضوع البحث و حتى علوم الطب و الكيمياء – كما أسلفنا – يمكن أن تكون لازمة للباحث إذا كان سيتطرق في بحثه إلى موضوعات ذات علاقة بمجالي هذين العلمين .
لهذا فقد اكتفينا بذكر اهم العلوم المساعدة , التي نعتقد أن كل مؤرخ سيحتاج إليها تاركين الباحث بعد ذلك في مهمة تحديد العلوم الأخرى ذات العلاقة بموضوع بحثه فمن العلوم و المعارف المساعدة مثلاً , الأدب بأنواعه , و علم النفس , و علم القانون , و مقارنة الأديان و الرسم و النحت و التصوير و العمارة و الموسيقى .. إلخ .
فكل حقل من حقول هذه المعارف و العلوم و الفنون يمكن أن يمد الباحث بأكبر العون في بحثه , بالقدرر الذي يتطلبه موضوع البحث و طبيعته ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق