صفات المؤرخ
&&&&&&&&&&&&
و لضمان علمية التاريخ يشترط في من يتصدى للإشتغال في مجاله أن يكون متصفاً بصفات معينة منها :
- الصبر و المثابرة :
فالبحث في مجال التاريخ يتطلب جهداً كبيراص متواصلاً , في التفتيش عن المادة التاريخية , المتمثلة بالوثائق المكتوبة و الآثار الغير مكتوبة , كما قد يتطلب اللجوء إلى السفر و الإنتقال إلى مواقع الأحداث التاريخية , و إلى المكتبات العامة و دور المخطوطات و المحفوظات و المتاحف , و غيرها من الاماكن التي يحتمل ان يبحث فيها على بعض ما يحتاجه الباحث من مادة تاريخية لإنجاز بحثه .
ثم بعد ذلك لابد للباحث من قراءة المادة التاريخية بعد جمعها , و من نقدها و تمحيصها و الإشتغال بها وفقاً لخطوات منهج البحث , للخروج بالنتائج المرجوة منها , كل ذلك و ما يستغرقه من جهد و وقت قد يمتد اعواماً , لإنجاز بحث صغير , يجعل الصبر و المثابرة من الصفات الضرورية للباحث في مجال التاريخ , حتى لا يتوقف عن مواصلة البحث إذا ما اعترضه بعض المصاعب , مثل ندرة المصادر و ضعف الإمكانيات , أو انتزعته من بحثه مشاغل الحياة اليومية , أو صادف في المادة التاريخية غموضاً أو اختلاطاً و اضطراباً في المعلومات ..
- الأمانة :
فالوصول إلى نتائج صحيحة , لابد أن يتصف الباحث بصفة الأمانة , التي تحول دونه و دون الكذب و الإنتحال و التزوير و إخفاء الحقائق التي لا تناسب الرأي العام , و لا ترضي غرور المجتمع أو السلطان , و لا تنسجم مع مجمل الاتجاهات و القناعات و الأفكار السائدة ..
- الشجاعة :
و هي صفة على درجة عالية من الأهمية , و ترتبط إرتباطاً و ثيقاً بصفة الامانه الىنفة الذكر , إذ تمنح الباحث القدرة على مناصرة الحقيقة و الجهر بها مهما كانت مره , و تحمّل تبعة إبرازها دون خوف أو وجل , و دون مراعاة لما يمكن أن يجره ذلك عليه من غضب ذوي السلطان , سواء كانوا حكاماً أو أصحاب اتجاهات و مدارس فكرية أو مذاهب دينية أو أحزاب سياسية .. إلخ .
- الموضوعية و عدم التحيز :
إذ لا جدوى من كل الجهود التي يبذلها الباحث مالم يتصف – أي الباحث – بالموضوعية و عدم التحيز .
فجهوده كلها تهدف إلى بلوغ الحقيقة , فإذا اتصف بعدم الموضوعية و بالتحيز و الإنسياق وراء هواه و ميوله و عواطفه , فغنه بذلك يفسد ثمرات جهوده كلها و ييحرف هذه الجهود عن الهدف الذي لابد أن تتجه إليه , و هو الوقوف على الحقيقة التاريخية و إبرازها , كما توصل إليها , بموضوعية و حيادية , مهما خالفت قناعاته و تصادمت مع عواطفه و ميوله و اتجاهاته أو اتجاهات الجماعة التي ينتمي إليها , سواء كانت شعباً أو عشيرة أو أسرة أو طائفة أو مذهباً أو حزباً .
- التواضع و العزوف عن الشهرة و الزهد في المناصب :
و هي صفات ضرورية تحمي الباحث و تقيه من شرور اللهث وراء الأضواء و التكالب على المناصب و الحرص على البروز , لما في ذلك من تبديد لوقته الثمين , من ناحية , و لما يمكن أن تفرضه عليه من تنازلات و من سلوك يتصف بالمحاباة و التزلف و التصنع , من ناحية أخرى .
فيخرج بذلك عن إطار العلم و يعجز عن خدمة التاريخ خدمة منزهة ..
- الملكة النقدية :
فالتمتع بملكة النقد صفة لازمة للمؤرخ , الذي لا يتعامل مع موضوع مباشر يستطيع ملاحظته , بل يتعامل مع حدث مضى , من خلال ما روي عنه و ما خلفه من آثار و وثائق , قد يلحقها التحوير و التزوير و التشويه و الإختلاق .
لهذا لابد للباحث من ان يتصف بالقدرة على النقد و تمييز الصحيح من الكاذب .
و هذه الصفة تحول دون تسليم الباحث بكل ما يقرأ أو يسمع أو يرى من أثر . لانه إذا سلم بصحة كل ما يصل إليه من مادة تاريخية , فإن دوره كباحث يتلاشى و يصبح مجرد مقلد و مردد , دون إعمال العقل و استخدام النقد للوصول إلى الحقيقة .
و يمكننا أن نقدر مدى أهمية هذه الصفة إذا ما عرفنا أن نقد الأصول التاريخية هو اهم خطوات منهج البحث التاريخي .
- العقل المنظم :
فالباحث لا يستطيع أن ينجز أي بحث علمي ما لم يكن متمتعاً بعقل منظم , قادراً على التمييز بين عناصر البحث و ترتيبها و تنسيقها و تحديد العلاقات بينها و استخلاص النتائج المنطقية منها .
و الباحث في مجال التاريخ هو اكثر حاجة إلى عقل منظم يميز بين الحوادث و الوقائع , التي لم تعد ماثلة أمامه , بل يتخيلها من خلال الحقائق و المعلومات المتناثرة عنها بين يديه , فيعيد تركيبها , مرتبة , منسقة , مترابطة , منسجمة , ضمن سياق تاريخي منطقي سليم , محدداً علاقاتها و تفاعلاتها , و مثبتاً أسبابها و نتائجها , مميزاً بين ما اختلط و تشوش منها , محدداً أزمانها و أماكنها . و هذا النشاط العقلي المتعدد , لا يمكن أن ينجزه إلا باحث يتمتع بعقل منظم ..
- التفهم و الإحساس و القدرة على التخيل :
فالباحث في مجال التاريخ , ما لم يكن قادراً على تفهم مشاعر و أفكار و دوافع صانعي الظاحداث التاريخية , و ما لم يكن قادراص على تخيل ظروفهم تخيلاً يمكنه من الإنتقال , ذهنياً و نفسياً , إلى عصرهم , فيعيش معهم و يشاركهم في أدوارهم و يحس بأحاسيسهم , فإن أحكامه عليهم و أفعالهم ستكون أحكاماً قسرية , متسمة بعدم الموضوعيه , طابعها إسقاط القيم و الأحكام و الأفكار و التصورات و الظروف المعاصرة على إطار تاريخي مختلف في ظروف و قيمه و أحكامه و أفكاره و تصوراته .
و في ذلك ابتعاد عن الحقيقة التاريخية , التي لا يمكن أن تدرك و تفهم إلا ضمن إطارها التاريخي و عصرها الذي وجدت فيه ..
و بهذه الصفات , إضافة إلى استخدام المنهج التاريخي استخداماً سليماً و بالتزود بالمهارات و المعارف و العلوم المساعدة , يكتسب الجهد البحثي في حقل التاريخ صفته العلمية , و يصبح التاريخ علماً من العلوم , يختلف في منهجه عن مناهج العلوم الطبيعية من بعض الوجوه , و يتفق معها من وجوه أخرى , دون أن يلغي اختلافه عنها صفته العلمية , التي يكتسبها من كونه يمتلك منهجاً متدرج الخطوات واضح الهدف , يبدأ بالتساؤل , و ينتهي بإعطاء الإجابات العلمية المتسمة بالحياد و الموضوعية , المبنية على جهد بحثي منظم ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق