الخميس، 8 مارس 2012

منهج البحث التاريخي ..


منهج البحث التاريخي
&&&&&&&&&&&&&&&


إن معرفة الماضي توضح الحاضر , و قد تساعد على التنبؤ بالمستقبل . و لكن معرفة الماضي يمكن أن تكون عل صورتين :

- معرفة قائمة على الوهم :

و هي معرفة شائعة أساسها ما تتناقله الأجيال من روايات مشبعة بالخيال و المبالغات , عن حياة و أعمال أسلافها . و تكاد أن تكون هي المعرفة الشائعة بين الناس . فالشعوب كالأفراد , تسعى دائماً إلى تمجيد نفسها و تضخيم أعمالها و السكوت عن هزائمها و نكساتها , مما يفضي إلى وجود تاريخ مروي تتناقلة الأجيال , هو أقرب إلى الوهم منه إلى التاريخ .

- معرفة قائمة على النقد و التحقيق , أي على استخدام المنهج التاريخي :

و هذه هي المعرفة التاريخية العلمية المستندة إلى الدراسة المنهجية , المستخدمة لأدوات المنهج التاريخي , المتمثلة بالوثائق التاريخية , بصورها المختلفة , و نقدها و التحقق من صحتها و صحة المعلومات التاريخية , التي تحتوى عليها
و هذه المعرفة الأخيرة القائمة على النقد و التحقيق , هي وحدها المعرفة التي يمكن أن تمدنا بفهم واضح للحاضر و إمكانية أفضل للتنبؤ بالمستقبل , استناداً إلى المعرفة الصحيحة المتوفرة عن الماضي التي يتم التوصل إليها باستخدام منهج البحث التاريخي .

و يتميز منهج البحث التاريخي عن مناهج العلوم الطبيعية بكونه منهجاً استرجاعياً غير مباشر , ينطلق من الأثر الماثل في الحاضر نحو الحدث الذي وقع في الماضي و خلف هذا الأثر . في حين أن المنهج التجريبي – منهج العلوم الطبيعية – هو منهج مباشر , يتعامل – كما رأينا سابقاً – مع ظاهرة ماثلة أمامه .

و لكن رغم هذا الإختلاف , فإن هناك اوجه إتفاق يكتسب المنهج التاريخي من خلالها , صفته العلمية , فالباحث في حقل علم من العلوم ينطلق من تساؤل حائر في الذهن , يسعى إلى الإجابة عليه عبر خطوات منظمة , متخلياً عن أي أحكام مسبقة أو هوى في النفس , قاصداً الوصول إلى الحقيقة , و لا شيء غيرها , متسلحاً بحس نقدي , فلا يسلم بشيء قبل التحقق من صحته .

و ينطلق المنهج التجريبي من الملاحظة , فالفرضية , فالتأكد من الفرضية عن طريق التجربة , و تكرارها ضمن نفس الشروط , فالوصول إلى قانون يمكن تعميمه على الحالات و الظواهر المماثلة .

و في حين يعمد الكيميائي إلى مختبره , فيدرس ظاهرة كيميائية ما , باتباع خطوات المنهج التجريبي معتمداً على التجربة و الإختبار , فإن الفلكي يعتمد على وسيلة مختلفة نوعاً ما . فهو يلجأ إلى المراقبة المباشرة المتصلة للظواهر الفلكية , التي لا يستطيع أن يتحكم في حركتها أو يكررها كلما أراد ذلك . أما المؤرخ فإنه لا يستطيع أن يجمع ناصر الحدث , كالكيميائي , و يحبس نفسه في المختبر , ليلاحظ و يجرب .
و لا يستطيع أن يقف وراء منظار فلكي ليشاهد الواقعة التاريخية و يدرسها , إنه يتعامل مع واقعة تاريخية حدثت و انتهت و لم يعد بالإمكان مشاهدتها أو تكرار حدوثها .
و لكن هذا لا يعني أن المؤرخ لا يستطيع أن يدرس الواقعة التاريخية وفق منهج منظم محدد الخطوات . فهو ينطلق أيضاً – شأنه في ذلك شأن الباحث في مجال الكيمياء أو الفيزياء أو الفلك ... إلخ .
من تساؤل في الذهن , يسعى إلى الإجابة عليه باستخدام المنهج التاريخي . و كما أن لمناهج العلوم الطبيعية خطوات منظمة متدرجة , فإن لمنهج البحث التاريخي أيضاً خطواته المنظمة , المتدرجة , الموصلة إلى معرفة تاريخية , لا نتردد – إستناداً إلى علمية هذا المنهج – عن وصفها بصفة العلم . بل إن منهج البحث التاريخي هو أشبه ما يكون بمنهج علم الجيولوجيا , و هو أحد العلوم الطبيعية من حيث أن الجيولوجي يدرس الأرض كما هي الآن , و يحاول عبر منهج منظم أن يستعيد الماضي , ليعرف كيف صارت إلى حالتها الراهنة .
و المؤرخ يدرس الأثر أو الآثار التي خلفها الحدث التاريخي , ليصل إلى الصورة التي حدث بها , بالقدر الذي يسمح به الآثار الباقية , مجيباً بذلك على التساؤل الحائر في ذهنة ..

إن للتاريخ إذن منهجه المنظم , و هو منهج ينطلق من الأثر المتمثل بمخلفات الماضي و سجلاته , معتمداً على النقد و التحقيق للوصول إلى المعرفة التاريخية , متجرداً من الهوى و من الآراء و الأحكام المسبقة , واضعاً نصب عينيه الوقوف على الحقيقة , بقدر ما تسمح به المادة التاريخية المتوفرة له , و بقدر ما تمكنه قدرته كباحث , فإذا ما أخفق بعد هذا كله في بلوغ الحقيقة , فإن إخفاقة هذا لا ينفي أن جهده كان جهداًعلمياً منظماً , و لا يلغي صفة العلم عن الحقل الذي يعمل فيه , و هو حقل التاريخ .
فالمنهج هو الذي يضفي على المعرفة صفة العلم لا مقدار اليقين الذي يتوفر لنتائج البحث ..

*******************************

من كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور أحمد قايد الصايدي
أستاذ التأريخ الحديث و المعاصر
جامعة صنعاء


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق